سورة القيامة - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القيامة)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {لا أُقسم} أي: أُقسم. وإدخال {لا} النافية على فعل القسم شائع، كإدخاله على المقسم به في {لا وربك} و{لا والله}، وفائدتها: توكيد القسم، وقيل: صلة، كقوله: {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد: 25] وقيل: هي نفي وَرَدَ لكلام معهود قبل القسم، كأنهم أنكروا البعث، فقيل: لا، أي: ليس الأمر كذلك، ثم قال: أُقسم {بيوم القيامة} إنَّ البعث لواقع. وأيًّا ما كان ففي الإقسام على تحقيق البعث بيوم القيامة من الجزالة ما لا يخفى. وقيل: أصله: لأُقسم، كقراءة ابن كثير على أنَّ اللام للابتداء، و{أٌقسم}: خبر مبتدأ مضمر، أي: لأنا أُقسم، ويُقويه أنه في الإمام بغير ألف ثم أشبع فجاء الألف.
{ولا أٌقسم بالنفس اللوّامة}، الجمهور على أنه قسم آخر، وقال الحسن: الثانية نفي، أي: أُقسم بيوم القيامة لا بالنفس اللوّامة، فيكون ذمًّا لها، وعلى أنه قسم يكون مدحاً لها، أي: أقسم بالنفس المتقية، التي تلوم صاحبها على التقصير، وإن اجتهدت في الطاعة. أو: بالنفس المطمئنة اللائمة للنفس الأمّارة، وقيل: المراد الجنس، لِما رُوي أنه عليه السلام قال: «مَا مِنْ نَفْسٍ بَرَّةٍ ولا فَاجِرَةٍ إِلاَّ وتلُومُ نفسها يوم القِيامَة، إنْ عَملت خَيْراً، قالت: كيف لم أزدْ؟! وإِنْ عملت شرًّا قالت: ليتني كُنتُ قصرتُ» وذكره الثعلبي من كلام البراء: قال أبو السعود: ولا يخفى ضعفه؛ لأنِّ هذا القدر من اللوم لا يكون مدراراً للإعظام بالإقسام، وإن صدَر عن النفس المؤمنة المحسنة، فكيف من الكافرة المندرجة تحت الجنس، وقيل: بنفس آدم عليه السلام فإنها لا تزال تتلوَّم على فعلها الذي خرجت به من الجنة.
وجواب القسم: لتُبعثنّ، دليله: {أيَحْسَبُ الإِنسانُ} أي: الكافر المنكرِ للبعث {ألَّن نجمعَ عِظامه} بعد تفرّقها ورجوعها عظاماً رفاتاً مختلطاً بالتراب، أو: نسفَتْها الرياح وطيَّرتها في أقطار الأرض، أو: ألقتها في البحار. وقيل: إنَّ عَدِيّ بن ربيعة، خَتنَ الأخنس بن شريق، وهما اللذان قال فيهما النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم اكفني جارَيْ السوء، عَدياً والأخنس» قال عَدِيّ: يا محمد، حدِّثنا عن يوم القيامة متى يكون، وكيف أمرها وحالها؟ فأخبره عليه السلام، فقال: يا محمد؛ لو عاينتُ ذلك لم أصدقك، ولم أُومِنْ بك، أَوَيجمعُ الله هذه العظام؟ فنزلت. {بلى} أي: نجمعها حال كوننا {قادرين على أن نُسَوّي بنانه} أي: أصابعه كما كانت في الدنيا بلا انفصال ولا تفاوت مع صغرها، فكيف بكبار العِظام؟! {بل يريد الإِنسانُ لِيَفجُر أمامه}: عطف على {أيحسب} إمّا على أنه استفهام توبيخي، أضرب عن التوبيخ بذلك إلى التوبيخ بهذا، أو: على أنه إيجاب انتقل إليه عن الاستفهام، أي: بل يريد ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات، وما يستقبله من الزمان، لا يرعوي عنه.
قال القشيري: {لِيفجُر أمامه} أي: يعزم على أنه يستكثر من معاصيه في مستأنف وقته، ولا يحلّ عقدةَ الإصرار من قلبه، فلا تصحّ توبتُه؛ لأنّ التوبة من شرطها: العزم على أن لا يعودَ إلى مثل ما عَمِل، فإذا كان استحلى الزلّة في قلبه، وتفكّر في الرجوع إلى مثله فلا تصح ندامتُه. اهـ. وقيل: {ليفجُرَ أَمامَه} أي: يكفر بما قُدامه، ويدل على هذا قوله: {يسأل أيَّانَ يومُ القيامةِ} أي: متى يكون؟ استبعاداً واستهزاءً.
{فإِذا بَرِقَ البصرُ} أي: تحيَّر، من: برق الرجل: إذا نظر إلى البرق فدهش بصره، وقرأ نافع بفتح الراء، وهي لغة، أو من البريق، بمعنى لمع من شدة شخوصه، {وخَسَفَ القمرُ}؛ ذهب ضوؤه أو غاب، من قوله: {فَخَسَفْنَا بِهِ} [القصص: 81] وقرىء: خُسف، بضم الخاء. {وجُمعَ الشمسُ والقمرُ} أي: جُمع بينهما، ثم يُكوّران ويُقذفان في النار، أو يُجمعان أسودين مكورين، كأنهما ثوران عقِيران. وفي قراءة عبد الله: {وجمع بين الشمس والقمر}. وقال عطاء بن يسار: يجمع بينهما يوم القيامة، ثم يقذفان في البحر فيكونان نار الله الكبرى، أو: جمع بينهما في الطلوع من المغرب. {يقول الإِنسانُ يومَئذٍ} أي: حين تقع هذه الأمور العظام: {أين المفَرُّ} أي: الفرار من النار، يائساً منه، والمراد بالإنسان: الكافر، أو: الجنس، لشدة الهول. قال القشيري: وذلك حين تُقاد جهنم بسبعين ألف سلسلة، كل سلسلة بيد سبعين ألف مَلَك، فيقول الإنسان: أين المفر؟ فيقال: لا مهرب من قضاء الله، {إلى ربك يومئذ المستقر}، أي: لا محيد عن حكمه. اهـ. والمفر: مصدر، وقرأ الحسن بكسر الفاء، فيحتمل المكان أو المصدر.
{كلاَّ}؛ ردعٌ عن طلب المفرّ وتمنِّيه، {لا وَزرَ}؛ لا ملجأ ولا حصن، وأصل الوَزر: الجبل الذي يمتنع فيه. قال السدي: كانوا إذا فزعوا تحصَّنوا في الجبال، فقال تعالى: لا جبل يعصمكم يومئذ مني، {إِلى ربك يومئذ المستقَرُّ} أي: إليه خاصة استقرار العباد ومنتهى سيرهم، أو: إلى حُكمه استقرار أمرهم، أو: إلى مشيئته موضع قرارهم، يُدخل مَن يشاء الجَنة ومَن يشاء النار، {يُنبّأُ الإِنسانُ يومئذٍ} أي: يُخبر كل امرىء، برًّا كان أو فاجراً، عند وزن الأعمال {بما قَدَّم} من عمله خيراً كان أو شرًّا، فيُثاب على الأول، ويُعَاقب على الثاني، {وما أخَّرَ} أي: لم يعمله خيراً كان أو شرًّا، فيُعاقب بالأول ويثاب على الثاني، أو: بما قدّم من حسنة أو سيئة قبل موته، وبما أَخَّرَ من حسنة أو سيئة سَنَّها فعُمل بها بعد موته، أو: بما قدّم في أول عمره، وأخَّرَ عمله في آخر عمره، أو: بما قَدَّم من أمواله أمامه، وأخَّرَ آخره لورثته، نظيره.
{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار: 5].
{بل الإِنسانُ على نفسِهِ بصيرةٌ} أي: شاهِدٌ بما صدر عنه من الأعمال السيئة، كما يُعرب عنه التعبير ب {على} وما سيأتي من الجملة الحالية، والتاء للمبالغة، كعلاّمة، أو: أنّثه لأنه أراد به جوارحه؛ إذ هي التي تشهد عليه، أو: هو حُجّة على نفسه، والبصيرة: الحُجة، قال الله تعالى: {قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِكُمْ} [الأنعام: 104] وتقول لغيرك: أنت حُجّة على نفسك. ومعنى {بل}: الترقي، أي: يُنبأ الإنسان بأعماله، بل هو يومئذ عالم بتفاصيل أحواله، شاهد على نفسه، لأنّ جوارحه تنطق بذلك. و{بصيرة}: مبتدأ، و{على نفسه}: خبر مقدّم، والجملة: خبر {الإنسان}، {ولو أَلْقَى معاذِيرَه}: حال من الضمير في {بصيرة}، أو: من مرفوع {ينبأ} أي: ولو جاء بكل معذرة يعتذر بها عن نفسه أي: هو بصيرة على نفسه، تشهد عليه جوارحُه، ويُعمل بشهادتها، ولو اعتذر بكل معذرة، أو يُنبأ بأعماله ولو اعتذر.. الخ. والمعاذير: اسم جمع للمعذرة، كالمناكير اسم جمع للمنكَر، لا جمع؛ لأنّ جمعها معاذِر بالقصر، وقيل: جمع مِعْذار وهو: الستر، أي: ولو أرخى ستوره. وقيل: الجملة استئنافية، أي: لو ألقى معاذيره ما قُبلت منه، لأنَّ عليه مَن يُكذِّب عُذره، وهي جوارحه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد قرن الله تعالى قسَمَه بالنفس اللوّامة بِقسَمِه بيوم القيامة، لمشاركتها له في التعظيم، بل النفس اللوَّامة أعظم رتبة عند الله، لأنها تكون لوّامة تلوم صاحبها على القبائح، ثم تكون لهَّامة تُلهمه الخيرات والعلوم اللدنية، ثم تكون مطمئنة، حين تطمئن بشهود الحق بلا واسطة، بل تستدل بالله على غيره، فلا ترى سواه، فحينئذ ترجع إلى أصلها، وتُرجع الأشياء كلها إلى أصولها، وهو القِدَم والأبد، فيتلاشى الحادث ويبقى القديم وحده، كما كان وحده. فالنفوس أربعة: أمّارة، ولوّامة، ولهّامة، ومطمئنة، وهي في الحقيقة نفس واحدة، تتطور وتتقلب من حال إلى حال، باعتبار التخلية والتحلية، والترقية والتردية فأصلها الروح، فلما تظلّمت سميت نفساً أمّارة ثم لوّامة، ثم لهّامة، ثم مطمئنة.
قال القشيري: أيحسب الإنسان، أي: الإنسان المحجوب بنفسه وهواه، ألَّن نجمع عِظامه؛ أعماله الحسنة والسيئة، بلى قادرين على أن نُسَوِّي بنانه، أي: صغار أفعاله الحسنة والسيئة، بل يُريد الإنسان المحجوب لِيَفْجُرَ أمامه، بحسب الاعتقاد والنية، قبل الإتيان بالفعل، أي: يعزم على المعاصي في المستقبل قبل أن يفعل، يسأل أيَّان يوم القيامة؟ لطول أمله، ونسيان آخرته، ولو فُتحت بصيرتُه لَشَاهد القيامة في كل ساعة ولحظة، بتعاقب تجلي الإفناء والإبقاء. فإذا بَرِقَ البصرُ: تحيّر من سطوات أشعة سبحات التجلِّي الأحدي الجمعي، وخسَف القمر أي: ستر نور قمر القلب بنور شمس الروح، وجُمع الشمس والقمر، أي: جُمع شمس الروح وقمر القلب، بالتجلِّي الأحدي الجمعي، يعني: فيغيب نور قمر الإيمان في شعاع شمس العرفان، يقول الإنسان يومئذ: أين المفر؟ من خوف الاضمحلال والاستهلاك، وليس عنده حينئذ قوة التمكين فيخاف من الاصطلام، إلى ربك يومئذ المستقر بالرسوخ والتمكين، بعد الفرار إلى الله، قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللهِ} [الذاريات: 50]. اهـ. بالمعنى.
يُنبأ الإنسانُ يومئذٍ بما قَدَّم من المجاهدة، حيث يرى ثمرتها، وما أَخَّرَ، حيث يرى شؤم تفريطه فيها، فالمشاهدة على قدر المجاهدة، فبقدر ما يُقَدِّم منها تعظم مشاهدته، وبقدر ما يُؤخِّر منها تَقِلّ. بل الإنسان على نفسه بصيرة، يرى ما ينقص من قلبه وما يزيد فيه، ويشعر بضعفه وقوته، إن صحّت بصيرته، وطهرت سريرته، فإذا فرط في حال سيره لا يقبل عذره، ولو ألقى معاذيره. وبالله التوفيق.


قلت: اختلف المفسرون في وجه المناسبة في هذه الآية، فقال بعضهم: ما تضمنه من الاقتدار على حفظه وإبقائه في قلبه، بإخراجه عن كسبه وإمساكه وحفظه، فالقادر على ذلك قادر على إحياء الموتى وجمع عظامها، وتسوية بنانها. ونَقَل الطيبي عن الإمام الفخر: أنه تعالى لمّا أخبر عن الكفار أنهم يُحبون العاجلة، وذلك قوله: {بل يُريد الإنسان لِيفجُر أَمامه} بيَّن أنَّ العَجَلة مذمومة، ولو فيما هو أهم الأمور وأصل الدين، بقوله: {لا تُحرِّكْ به لسانَك} فاعترض به، ليؤكد التوبيخ على حب العاجلة بالطريق الأولى. اهـ. وقيل: اعترض نزولُها في وسطِ السورة قبل أن تكمل، فوُضعت في ذلك المحل، كمَن كان يسرد كتاباً ثم جاء سائل يسأل عن نازلةٍ، فيطوي الكتابَ حتى يُجيبه، ثم يرجع إلى تمام سرده. انظر الإتقان.
يقول الحق جلّ جلاله: {لا تُحرِّكْ به}؛ بالقرآن {لسانَكَ لِتعجَلَ به}، وقد كان عليه الصلاة والسلام يأخذ في القراءة قبل فراغ جبريل، كراهة أن يتفلّت منه، فقيل له: لا تُحرك لسانك بقراءة الوحي، ما دام جبريل يقرأ، {لِتعجَلَ به}؛ لتأخذه على عجلة، لئلا يتفلّت منك، ثم ضَمِنَه له بقوله: {إِنَّ علينا جَمْعَه} في صدرك، {وقرآنه}؛ وإثبات قراءته في لسانك، فالمراد بالقرآن هنا: القراءة، وهذا كقوله: {وَلآ تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114]، {فإِذا قرأناه} على لسان جبريل {فاتَّبعْ قرآنه} أي: قراءته، {ثم إِنَّ علينا بيانَهُ} إذا أشكل عليك شيء مِن معانيه وأحكامه.
الإشارة: لا تُحرِّكْ بالواردات الإلهية لسانك لِتَعْجَل به حين الإلقاء، بل تمهّل في إلقائه ليُفهم عنك، إنَّ علينا جمعه وقرآنه، أي: حفظه وقراءته، فإذا قرأناه على لسانك في حال الفيض فاتبع قرآنه، ثم إنَّ علينا بيانه. وفي الحِكم: (الحقائق ترد في حال التجلي جملة، وبعد الوعي يكون البيان، {فإذا قرأناه فاتبعْ قرآنه إنَّ علينا بيانه}). ولا شك أنَّ الواردات في حال الفيض تبرز مجملةً، لا يقدر على حصرها ولا تَفَهُّمِها، فإذا فَرَغَ منها قولاً وكتابة فتَدَبرها وجدها صحيحةَ المعنى، واضحةَ المبنى، لا نقص فيها ولا خلل، لأنها من وحي الإلهام، وكان بعض المشايخ يقول لأصحابه: إني لأستفيد مني كما تستفيدون أنتم، وكان الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه إذا فاض بالمواهب يقول: هلاَّ مَن يكتب عنا هذه الأسرار. إلى غير ذلك مما هو مُدوَّن عند أهل الفن. والله تعالى أعلم.


يقول الحق جلّ جلاله: {كلاَّ} أي: انزجروا عما أنتم عليه من إنكار البعث والفجور، {بل تُّحبون العاجلةَ وتَذَرون الآخرة} أي: بل أنتم يا بني آدم لما خلقتم من عجل، وجُبلتم عليه، تَعْجلون في كل شيء، ولذلك تُحبون العاجلة مع فنائها وسرعة ذهابها، {وتذرون الآخرة} مع بقائها ودوام نعيمها. قال بعضهم: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من طين يبقى، لكان العاقل يختار ما يبقى على ما يفنى، لا سيما والعكس، الآخرة من ذهب يبقى، والدنيا من طين يفنى. ومَن قرأ بالغيب فالكلام مع الكفرة.
{وجوه يومئذٍ ناضرةٌ} أي: وجوه كثيرة، وهي وجوه المؤمنين المخلصين، يوم إذ تقوم القيامة، بهية متهللة، يشاهَدُ عليها نَضْرة النعيم، {إِلى ربها ناظرةٌ} أي: مستغرِقة في مشاهدة جماله، فتغيب عما سواه. ورؤيته تعالى يوم القيامة متفاوتة، يتجلّى لكل واحد على قدر ما يطيق من نور ذاته على حسب استعداده في دار الدنيا، فيتنعّم كل واحد في النظرة على قدر حضوره هنا، ومعرفته.
ورؤيته تعالى جائزة في الدنيا والآخرة، واقعة في الدارين عند العارفين، وهذه الآية شاهدة لذلك، وهي مخصَّصة لقوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] أي: لا تراه، على قولٍ. قال بعضُهم: هي واقعة للمؤمنين قبل دخول الجنة وبعده، حسبما ورد في الصحيح. وقوله في الحديث: «فيأتيهم الله في الصورة التي لا يعرفونها»، المراد بالصورة: الصفة، والمعنى: أنهم يرونه ثانياً على ما يعرفونه من صفاته العلية، وأهل المعرفة لا ينكرونه في حال من الأحوال.
والمقصود من الآية: تقبيح رأي حب العاجلة بذكر حسن عاقبة حب الآجلة، أي: كيف يذر العاقل مثل تلك المسرّة، التي ليس فوقها شيء، بدلاً من هذه اللذة الخسيسة الدنية، أم كيف يغتر بعروض هذا السرور وعاقبته الهلاك والثبور؟ انظر الطيبي. وحَمْل النظرعلى الانتظار لأمر ربها، أو لثوابها، لا يصح خلافاً للمعتزلة؛ لأنَّ الانتظار لا يُسْند إلى الوجه، وأيضاً: المستعمل بمعنى الانتظار لا يتعدّى ب {إلى}، مع أنه لا يليق الانتظار في دار القرار.
{ووجوه يومئذٍ باسرٍةٌ} أيك كالحة، شديدة العبوسة وهي وجوه الكفار. {تظن} أي: يتوقع أربابُها {أن يُفعل بها فاقِرة} أي: داهية عظيمة، تقصم فقار الظهر. {كلاَّ}، ردع عن إيثار العاجلة على الآخرة، أي: ارتدعوا عن ذلك وتنبّهوا لِما بين أيديكم من الموت، الذي عنده تنقطع العاجلة عنكم، وتنتقلون إلى الآجلة التي تبقون فيها مخلّدين، وذلك {إِذا بلغتِ} الروح {التراقيَ}، ولم يتقدّم للروح ذكر؛ إلاَّ أنَّ السياق يدل عليها، والتراقي: العظام المكتنفة لحفرة النحر عن يمين وشمال، جمع: ترقوة، أي: إذا بلغت أعالي الصدور، {وقيلَ مَن راقٍ} أي: قال مَن حضر المحتضر: مَن يرقيه وينجيه مما هو فيه من الموت؟ وهو من الرُقية، وقيل: هو من كلام ملائكة الموت، أي: أيكم يَرْقَى بروحه، ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب؟ من الترقِّي.
{وظنَّ أنه الفِراقُ} أي: تيقّن المحتضرُ أنَّ ما نزل به هو الفِراق من دار الدنيا ونعيمها التي كان يحبها {والتفَّتِ الساقُ بالساقِ} أي: التوت ساقاه بعضها على بعض عند موته. وعن سعيد بن المسيِّب: هما ساقاه حين تُلفّان في أكفانه، وقيل: شدّة فراق الدنيا بشدّة إقبال الآخرة على أنَّ الساق مَثَلٌ في الشدة. وعن ابن عباس رضي الله عنه: هَمَّان: هَمٌّ الولد، وهَمُّ القدوم على الواحد الصمد. {إِلى ربك يومئذٍ المساقُ} أي: إلى الله وإلى حكمه يُساق، لا إلى غيره، إمّا إلى الجنة وإمّا إلى النار، وهو مصدر: ساقه مساقاً.
{فلا صدَّق} ما يجب به التصديق، من الرسول والقرآن الذي نزل عليه، أو: فلا صدّق ماله زكاه، {ولا صَلَّى} مافُرض عليه، والضمير فيها للإنسان المذكور في قوله: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة: 3]، أو: إلى المحتضر المفهوم من قوله: {إذا بلغت التراقي}، وهو أقرب. {ولكن كذَّب} بما ذكر من الرسول والقرآن {وَتَولَّى} عن الإيمان والطاعة، {ثم ذهب إلى أهله يَتَمطَّى}؛ يبختر بذلك، وأصله: يتمطط، أي: يتمدّد؛ لأنّ المتبختر يَمُدُّ خطاه، فأبدلت الطاءُ ياءً؛ لاجتماع ثلاثة أحرف متماثلة، قال في النهاية: مِشْيةٌ مُطيْطاء، بالقصر والمد، أي: فيها تَبخْتُرن ويقال: مَطَوْتُ ومَطَطْتُ بمعنى مدَدْتُ، وهي من المُصَغَّراتٍ التي لم يُستعمل لها مُكَبَّرٌ. اهـ. أو: من المطا، وهو الظَّهْر فإنه يلويه.
{أَوْلَى لك فأَوْلَى} أي: ويل لك، وأصله: أولاك الله ما تكره، واللام مزيدة، كما في قوله: {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72] أو: أولى الهلاك لك فأولى، وقيل: هو مقلوب من الويل، وقيل: أولى بالعذاب وأحق به، وقيل: من الوَلى، وهو القرب أي: قاربه ما يهلكه. {ثم أَوْلَى لك فأَوْلَى}، كرر للتأكيد، كأنه قيل: ويل لك فويل لك ثم ويل لك فويل لك، وقيل: التكرير فيه، لأنه أراد بالأول: الهلاك الدنيوي وفي القبر والبرزخ ثم في القيامة، ثم في النار. {أيَحْسَبُ الإِنسانُ أن يُترك سُدىً}؛ أيظن الكافرُ أن يُترك مُهْمَلاً، لا يُؤمر ولا يُنهى ولا يُبعث ولا يُجازَى، {ألم يكُ نطفة مِن مَنِيٍّ تُمنى}؟ أي: تُراق في الأرحام، {ثم كان علقةً} أي: صار المَنِي قطعة دم جامد، بعد أربعين يوماً {فخَلَقَ فسَوّى} أي: فخلق الله منها بشراً سويًّا؟ {فجعل منه}؛ من الإنسان، أو: من المَنِي {الزوجين}؛ الصنفين {الذكرَ والأُنثى} لحكمه بقاء النسل، {أليس ذلك بقادرٍ على أن يُحيي الموتى} وهو أهون من البدء في قياس العقول؟ كان عليه السلام إذا قرأها يقول: «سبحانك! بلى».
الإشارة: قال في الإحياء: اعلم أنَّ رأس الخطايا والمهِلكة هو حب الدنيا، ورأس أسباب النجاة هو: التجافي بالقلب عن دار الغرور.
ثم قال: واعلم أنه لا وصول إلى سعادة لقاء الله في الآخرة إلاَّ بتحصيل محبته والأنس به في الدنيا، ولا تحصل المحبة إلاَّ بالمعرفة، ولا تحصل المعرفة إلاَّ بدوام الفكر، ولا يحصل الأنس إلاَّ بالمحبة ودوام الذكر، ولا تتيسَّر المواظبة على الذكر إلاَّ بإقلاع حب الدنيا من القلب، ولا يقع ذلك إلاّ بترك لذات الدنيا وشهواتها، ولا يمكن ترك المشتهيات إلا بقمع الشهوات، ولا تنقمع الشهوات بشيءٍ كما تنقمع بنار الخوف المحرقة للشهوات. اهـ. على نقل صاحب الجواهر.
ومَن أسعده الله بلقاء شيخ التربية هان عليه معالجة النفس من غير تعب، في أقرب وقت، بحيث يُغيّبه عنها، ويزُجه في الحضرة، في أقرب زمان، فيدخل في قوله تعالى: {وجوده يومئذ ناضرةٌ إِلى ربها ناظرةٌ} فتحصل له النضرة والنظرة في الدنيا والآخرة فيفنى عن نظره حسُّ الكائنات وتظهر أسرار الذات الأزلية للعيان بادية، فيستدل بالله على غيره، فلا يرى سواه، وينشد ما قال الشاعر:
فَلم يَبْق إلاّ الله لم يبقَ كائن *** فما ثَمَّ موصولٌ ولا ثَمَّ بائِنُ
بِذَا جاء بُرهانُ العَيانِ فما أرى *** بِعَيني إلاَّ عينَه إذْ أُعايِنُ
قال القشيري: قوله تعالى: {وجوه يومئذٍ ناضرةٌ...} إلخ، يُقال: هذه الآية دليل على أنهم بصفة الصحو، ولا يداخلهم حيرة ولا دهش، لأنَّ النضرة من أمارات البسط، والبقاء في حال اللقاء أتم من اللقاء، والرؤية عند أهل التحقيق تقتضي بقاء الرائي.. إلخ كلامه. {ووجوه يومئذ باسِرة} وهي وجوه أهل الغفلة، المحجوبين في الدنيا عن شهود الحق، تظن أن يُفعل بها داهية فاقرة، لِما فرّطت في جنبه تعالى من عدم التوجه إليه، كلاَّ، فلترتدع اليوم، ولتنهض قبل فوات الإبان، وهو إذا بلغت الروحُ التراقي، وقيل: مَن راقٍ؟ والتفت الساق بالساق، إلى ربك يومئذ المساق، فيحصل الندم، وقد زلّت القدم، فلا صدّق بوجود الخصوصية عند أربابها، فيصحبهم ليزول عنه الغين والمرض، أي: غين الحجاب ومرض الخواطر والشكوك، ولا صلَّى صلاةَ القلوب، ولكن كذَّب بوجود الطبيب، وتولِّى عنه مع ظهوره، ثم ذهب إلى هواه ودنياه يتمطى، أَوْلَى لك فأَوْلى، أي: أبعدك الله وطردك، ثم أَوْلَى لك فأوْلى، أيحسب الإنسانُ أن يتركه الحقُ سدىً، من غير أن يُرسل له داعياً يدعوه إلى الحق؟ ألم يك نطفة مهينة، ثم صوَّره ونفخ فيه من روحه، أليس ذلك بقادرٍ على أن يُحيي الموتى؟ أي: القلوب والأرواح الميتة، بالعلم والمعرفة، بلى وعزة ربنا إنه لَقادر، «مَن استغرب أن يُنقذه الله من شهوته، وأن يُخرجه من وجود غفلته، فقد استعجز القدرة الإلهية، وكان الله على كل شيء مقتدراً» وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد، وآله.